حياة صغيرة؛ الرواية التي أصبحت حديث الكُل قبل عامين تقريبًا. تسجيلات الفيديو المنشورة للقُراء وهم يبكون بشدة أثناء قراءتهم لها كان سبب أساسي لزيادة شعبيتها، حتى أن ثمة وسمًا على تيك توك باسم الرواية ينشر فيه القراء أشكالهم وردات فعلهم. وكأي شخصِ آخر شعرتُ بفضول لمعرفة الرواية عن كثب، إذ كيف لرواية ما أن تُبكيّ أحدهم؟ كنت قد اختبرت شعور أن تدمعُ عينايّ بسبب رواية من قبل وأن تُشعرني نصوصًِا ما بمشاعر حزينة، لكنني لم أتخيل أن يبكي أحدهم بشدة بسبب رواية. اشتريت الكتاب وكُلي تساؤل: أحقًا ستكون القِصة حزينة لدرجة البكاء؟ ولِمن يبحث عن إجابة مُختصرة لهذهِ السؤال: فنعم، الكتاب مُبكِ بشدة. أبكانيّ ثلاث مرات على الأقل. لم تكن دموعٍ تنهال وحسب، إنما جعلتني، بعض فصول الكتاب، أشعر بألم فضيع في صدري؛ غصة، وتوجع. كرهت رؤية غلافها، واعتزلت قراءتها قبل النوم فهي مُفجعة، وصادمة، ومُرعبة، ومأساوية. وإلى الآن لا أعرف كيف صمدتُ لإتمامها!
ثمة حرق للأحداث. في حال أردت تجاوزه، اقرأ اسفل نهاية التحذير.
حسنًا، كمقدمة يسيرة عن الكتاب فهو يتحدث عن حياة أربعة أصدقاء: جود سانت فرانسيس «الشخصية الرئيسة التي تُركز عليها»، وويليام راجنارسون، ومالكولم ايرفين، وجان بابتيست. من المفترض أن يكون الكتاب عن حياة الأربعة بنيوريورك، وعن صداقتهم وخوضهم لتجارب عِدة وعن ماضِ جود وكيف يساعدهُ من حوله بالتأقلم والاستمرار. نُلاحظ منذ البداية أن جود مُختلفًا وذو ماضِ غامض؛ فهو مكتئب، وانعزالي، وشديد التكتم على ماضيّه. من الواضح أن جود يعاني من اضطرابات نفسية كثيرة، إذ نراهُ يعاني كي يتصرف على نحوِ طبيعي، تدريجيًا عبر القِصة نتعرف على ماضيّه ويتضح أنهُ طفلِ تخلى أهلهُ عنه وعاش بدير (دار أيتام مسيحية) حيث تربى بين كهنة وعُذب وتُحرش بهِ مرارًا. منذ بدايته، يشعر جود أن هذهِ هي الحياة الطبيعة، كونهُ لم يعرف سِواها. يومًا ما، يعدهُ أحد مُعلميّه بتهريبه وتعويضه بحياة أفضل، يثق جودِ به ويذهب معه، ومن ثُم يتضح أن المُعلم يُريد الاتجار بِه فيعيش (في طفولته ومراهقته) ضحية للاغتصاب والاتجار بالجنس وكُل أنواع التلاعبات النفسية والجسدية التي يُمكن للمرء تخيلها. كان ضحيةِ فعلًا بكُل ما تعنيه هذهِ الكلمة إذ كُلما حاول الهرب، تُلقي بهِ الكاتبة «هانيا ياناغيهارا» بظروف أصعب وبأشخاص أقسى.
جود ذكي، ومتعاون، ويُحبه الجميع. حتى أنا أحببتُه، فهو يحاول كثيرًا أن يتأقلم وأن يفهم العالم، لكن شياطين وأشباح ماضيّه تُلاحقه وتجعله يشك بنفسه، وبتقدير الآخرين له، وبكونه يستحق التعاطف والحُب. يخلق لهُ ماضيّه أفكارًا انتحارية واضطرابات نفسية، اضطرابات كان من المُمكن حلها والتعافي منها، لكن الكاتبة لا تُعطي هكذا فُرصة للبطل، عوضًا عن ذلك نراها تُلقي بهِ بمشاكل بعد مشاكل وتحرمهُ من التعبير عن ماضيّه. يُحاول من حوله، في طفولته وفي نُضجه، أن يصغوا إليه وطلبوا منه حتى مُشاركتهم بقصته كي يُساعدوه لكنه لا يفضيّ بشيء. يبتلع جود تجاربهِ ويهضمها لوحده ويتعلم أن يتجاوز الآلآمه عبر تقطيع جلدهِ، بمحاولات تُشبه الانتحار، وهكذا يكُرر دائرة الإيذاء على نفسه. تجعله ياناغيهارا يحوم حول ماضيّه، تتآكلهُ الآلامه وتنهشه وحيدًا مثل ذئب لا يشبع.
في نيويورك، ينجح جود بخلِق عالمِ له. ويعيش حياةً كريمة بها ثراء ولحظاتِ جميلة وصداقاتِ متينة. يتبناه مُعلمه السابق وزوجته ويُحبانه. ويتقرب جود من ويليام، ويختفي مالكوم وجي بي من القصة تدريجيًا. تخدعنا ياناغيهارا وتُصور (لنا ولجود) أن ثمة أشخاصٍ خيّرين وأن السعادة شيء قابلِ للتحقيق، فيخرج جود من انعزاله ويُقرر أن يتعرف بأحدهم، ومن بين ثمانية ملايين شخصِ في نيويورك، يكتشف أن من يُواعدهُ مازوخيًا يستمتع بتعذيبه وإذلاله بلا سبب واضح. ثمة الكثير من المشاهد التعذيبية التي لا تُفسر شيئًا سوى أن ياناغيهارا تستمتع بإهانة شخصياتها وتتلذذ بتعذيبها. لماذا يُصبح جود شخصية فعالة قادرة على اتخاذ قرارات بشأن مصيرها عندما يتناسب ذلك مع الحبكة؟ وتُعطل قدرته حين يتناسب ذلك مع الحبكة أيَضًا؟ فهو قادر على الهرب مرتان من منزل الدير، لكن حينما يخوض علاقة جديدة مع شخصِ بمثل عمره لا يستطيع تركه أو إيقافه. تفشل ياناغيهارا مرارًا في خلق شخصية إنسانية بتعبيرات وردات فِعل إنسانية وطبيعية ومنطقية. تكاد تبدو كُل شخصيات الكتاب بدمى عرائس بلا أحاسيس أو رداتِ فعل. يسيرون حسبما تحركهم الكاتبة.
أكثر ما صدمني هي المُراجعات التي امتدحت أسلوب كتابة الرواية بأنها بليغة، بينما لم أر ذلك أبدًا. إذ وجدت أن أسلوب الكتابة كان، في أحسن الأحوال، عاديًا. لا ثيمة أدبيّة واضحة في النص، لا حوارات ماتعة، لا ألفاظ أو تعبيراتُ مُذهلة. كان عاديًا جدًا يُشبه قراءة مقالة صحفية مُملة. ثمة بالتأكيد بضعة اقتباسات جميلة من بين الكثير المبتذلة، لكنها ضاعت بين نصوص مكتظة، إذ تتبع ياناغيهارا أسلوب التكثيرية (Maximalism) أو الإفراطِ بالتعبير لكن دونما فائدة. وأما في خلق المشاهد فكارثة أخرى. على سبيل المثال: تصفُ الحياة الباذخة التي يعيشها أبطال القِصة بطريقة أشعرتني أني أرى حلقة من مُسلسل فتاة النميمة (Gossip Girl). هي تحاول القول إن الثراء والأموال والنجاح المهني لا تُشفي المرء ولا تُسعده حقًا (الفكرة بحد ذاتها مبتذلة)، لكنها تكتبها بتكاسل.
سأعترف، رغم كُل شيء، إلا أن الرواية تحمل مشاهدِ جميلة. علاقةِ جود بويليام كانت إحداها. هي فكرةِ صغيرة ونسمعها كثيرًا، لكن الحُب أحيانًا يتصدى لكلِ المآسيء ويقدم إجابات لأسئلتنا الوجودية. يحبُ ويليام جود، وُيسانده ويدعمه دونما شروط. يفهمه ويحترمه وبهذهِ الطريقة يُحرر جود من كُل مشاعرهِ السيئة تجاهِ نفسه. العلاقة بينهما لا تنشأ طبيعية وتستمر غريبة ذلك لأن أي اقترابِ عاطفي يُذكر جُود بماضيه. يصيرُ جود شخصٍ لا يريد هوية لنفسه ولا رغبات. كُل ما يحب هو ويليام. صديقه. ولأن ياناغيهارا قررت مُسبقًا ألا تُهب أية سعادة لجودِ، يموت ويليام بحادثِ مُروع. فيغدو جود حاقدًا وبجسد لا يحمل فقط الجروح والآلام بل الضغينة أيضًا تجاه الكون والناس. ألا يكفي أنه رأى الكثير؟ حين يموت ويليام، ثمة نصِ قصير عن الموت. كان مكتوبًا بطريقة باهرة. من المحزن أن ياناغيهارا قد أعطتُ حياةً وموتٍ كريمًا لكُل الشخصيات إلا لبطلها. إن هانيا ياناغيهارا تكرهُ أبطالها. هذهِ هي الحقيقة التي تقولها كُتبها ومقابلاتها. هي قطعًا تكتب عن أشخاصِ تكرههم.
*ينتهي حرق القصة.
لطالما قالت هانيا ياناغيهارا أنها أرادت الكتابة عن شخصِ لا يتعافى، إذ تؤمن أن ثمة قصصٍ وتجارب لا يُمكن للعلم النفسي حلها ولا للبشر التعافي منها. لا بأس باستخدام السرد الروائي كأطروحة جدلية، فعلها سارتر وآلبر كامو قبلها، لكن ما فشلت بهِ ياناغيهارا أنها لم تخلق حججًا منطقية لدعم نظريتها؛ فهي خلقت وأحداثِ غير منطقية وشخصيات شريرة تفتقر للعمق والتفسير، وبالمقابل لم تأت بما قد يُعارض نظريتها لتُنكره. فجود لم يذهب إلى الطبيب النفسي إلا بفترة متأخرة بحياته مما جعل تشافيّه أمرًا صعبًا. لماذا لم تجعله يذهب قبلًا لنرى عبر الحوارات والتطورات ما قد يحدث حقًا؟
إنها بهذه الطريقة تخدع القارئ فهي تُعرضهُ لعصارة عاطفية عبر قصة تكون، عند التفكير مليًا، غير واقعية إطلاقًا، سواءً من حيث الحبكة أو الواقعية النفسية. وبشعورِ من الغضب كوني كنت أبكي على رواية مُختلقة لا تُخبرنا بحقائق عن النفس والبشر أو الأخلاق أو الفلسفة أو ما يعنيه أن يكون المرء على قيد الحياة، فأني أرى أن الرواية، تحت المجهر الكلاسيكي، سيئة جدًا وبلا ذائقة فنية، ولكنها تحت التنصيف التجريبي، خلاقة ومتمردة. أعتقد أننا حين نراها من ناحية تجريبية ويكون اللامنطق منطقًا والشخصية أداة، فهي لا تُشبه إي كتاب آخر. كتاب حياة صغيرة يكاد يكون نقلة وعملِ فارق من ناحية التصنيفات، ونصهِ التجريبي يستحق التعرف عليه بحذر. هي رواية مختلفة حتى في الانطباعات التي تتركها فهي لا توضح ماهية البشر، بل ماهية ألا يكونوا بشرا، ولا تُعطيك حقائق أو فائدة مرجوة، إنما هي لعبةُ خيالية تُظهر لك أن الخيال بإمكانهُ إيلامك.