أريكةٌ صفراء، وملاءةٌ مُبللة، وقنديلٌ بلا فتيلْ، وبعضُ ذِكرى من أزقَّةِ طُفُولتي، تطفُو وتلتوي أمامي مِثلَ خُيوطِ دُخانْ، سرابًا من ذكرَى أو حُلم. فلا أدري أأنا مَن يُصوِّر الحُلم؟ أم أنَّ الحُلم يُصوِّرني؟
تُطالعُني الفوضى من كُلِّ صَوب، إنيّ أشعرُ مراتٍ بأنَّ كُتُبي ودفاتري تسخرُ منِّي! الجميعُ من حوليّ يضحكون، لقد اعتزلت كُلَّ شيء لأكتُبَ، وما زالت كِتاباتي بِدائـيّةً قراءتي أُمية وقراراتي عاطِفيَّةً طفولية. لم أتعلَّم بعد— وكُلُّ يوم يُدنِيني مِن تاريخٍ جُنونيّ.
عبثًا أُحاوِلُ الثباتَ، والطَّنينُ يتعاظمُ في رأسي، ويُدهشُنِي أحيانًا أنَّ ما كُنتُ أُمسِكُهُ بِيدَيَّ لم يسقُطْ مُنذُ زمنٍ طويل.
رئتاي جاحِظتان، وتعتلِي صدري نوباتُ الهلوسة، أَوَرِثتُ الهلعَ مِن جدي؟
يضطرِبُ الموجُ وبِتّ لا أسمع الآن غيرَ ضجيجِ اعتلاجه،
يتساقطُ اليقينُ منِّي.. مِن بين خرز مسبحتي المُتناثر من حولي.. لقد فككت خُيُوطَها بِنفسِي— أو لعلَّ الخرز لم يحتـمِل ثِقَلَ شُكُوكي.
إنَّ جميعَ الأشياءِ تتخلى عني إلّا هذا المد والجزر— أهذا الزَّبدُ في فـمي.. احتِضار؟ أم أنَّ بِداخلي تكوينُ بحر؟
يخنُقُني صوتي، وبرغم الزعيق، لا جِبال عاليةً حولي لِترُدَّ عليَّ الصدى. جُلّ ما أراه، قبَسًا مِن ظل خيال.
ألي من بعد العمى.. تبصِرة؟ أَثباتٌ هُناك مِن بعد البعثرة؟ قد ضَلَّ صوتِي طريقه من بعدما مزَّق الموجُ حبالَ الحنجرة—
لعلِّي لم أكن موجودةً يومًا، لعلِّي لم أعشْ— إنما كُنتُ أسعى في فراغٍ مُطلق.
بِضع ذِكرى من أزقَّة طُفولتِي، وبِضع رِجال، وامرأَة— أكادُ أنسى أيني من فرط الشُّرُود، ،سرابٌ يعلُو وينخفض فالموج يذهب؛.. ليعود وينخفِضُ؛.. لِيعلُو ضحلةٌ هي روحي كثيرةٌ هواجسها.
إلهي.. حاولت ألاّ أغتربَ — وأن أختلِطَ بين الحُشُود، فاتّضحت لِي كُلُّ الوُجُوه، وغاب فِي الأفق البعيد — وجهي. لِماذا يُشبه الحُضُورُ معالِمَ الغِيابِ؟ ولماذا ينكسِرُ ظلِي في كُلِّ مرةٍ أستقيمُ فيها بين الجموع؟ إلهي.. لِماذا يُرهقني الوصُول؟
ها هو صوت عَباب الطوفان يُحطِّمُ سقفي، يُزيلُ هذه الجاذِبيةَ اللعِينة مِن أرضي، أسُقُوطٌ هذا؟ أم نوبةٌ أخرى مِن صنعِ وهـمي؟
أقبض على رأسِي بِكلتي يدَي حتى لا تتهاوى جُدران عقلي الرفيعة، وكأن الأشياء قد اقتُلعت من قوامها، لعلِّي لم أكُن موجودةً يومًا، لعلِّي لم أكُن موجودةً يومًا، إنما كُنتُ أسعى فِي فراغ مُطلق، أبحث بين دهاليزِ الخواء، عن معنًى.. عن رقصةٍ.. تعِيدُ لِرُوحي حُبَّ الغِناء.
سأتعثر — حتى فِي الحُلم، وسيتداعى تكويني تحت عبابِ البحر، ..وسأعبر بين ثنايا شروخ الحُلم علَّني ألـمح طيفًا.. أو شبحا يومِئُ لي، ويدلني على طرِيقٍ جديدٍ، أو على مجرى نهر.
يكاد لا يُغادِرُني مشهدُ تحرُّكِ الرياح، وتشابُكِ الأغصان، وعمقِ جُذُورِ الأشجار، وشروقِ الشمس، وولادةِ الأطفال، وتجاعيدَ يد جدتي، وجدائِلها المصبوغة بالحِنَّاءِ إن كُلَّ شيءٍ يتعاقب؛ ذرواتٌ تليها ذرواتْ موجٌ بعد موجٍ كُلُّها تعبرنِي، تتجاوزني.. أَأَجِدُ نفسِي فِي وسَطِ التيار؟ أأصطدِمُ بِصخرةٍ تُوقظني؟
حين يبدأ الحُلم بالتلاشي، سأغرسُ آثار يدَيّ على شُقُوقِ الجدران، وسأبتَلعُ القمر، وأدفنُ أسناني بين الزهر، وسأصنعُ مِنَ الأغصان حبلَ مِشنقة! وسأكتبُ على رملِ الشواطئ: هُنا، امرأة لفظها البحر. أريدِ أن أتركَ خلفي ألفَ دليل؛ لِتقتفي كل النساء مِن بعدي أثري.
على ملاءة السرير، مِلحُ بحر، وعلى أطرافِ قدمي، بقايا رمل، قد خلا جوفُ صدري من بعد الغرق. كُلُّ الوقائعِ تبدُو سريالية، وما أراه يطفو.. بعيدًا.. فِي اللامكان من سيُصدِّقُ أني ما زلت أمد يدي مثل الأعمى، نحو ثُقُوبِ جُدراني أتلمَّس بقايا حُلُمٍ؟ إنِّي أعيش بِداخل سرمديةِ الوحي. لا ثبات يسعني حتّى وإن هويتُ من سريري المُهترئ فلن أسمع صوتَ السُّقُوط.
Comments