top of page
صورة الكاتبملاك الراشد

أربعة أيام في فيينا

أجمل ما يكون للمرء هو الاستيقاظ مُبكرًا في مدينة جديدة! أو على الأقل هذهِ فكرتي عن السعادة. حضرّت نفسي سريعًا، ارتديت بنطال جينز وسترة صوفية بأكمامِ طويلة، ونزلت من غرفة الفندق، ورحُت أبحث عن محطة القطار الأقرب، وما أن دخلت، وابتعت تذكرة لأسبوع، إلا واستولى عليّ شعور الفضول الذي يأسر المرء عند خطوهِ لموطئ جديد؛ وكما لو أن لا شيء يستحثُ هذا الشعور إلا قطارات الأنفاق، وهي تمضي سريعًا، تفتح أبوابِ لناس، وتُغلقها لآخرين. كَلَّا يمضي، وأنا بينهم، بلا التزامات جادة، سوى قائمة ملاحظات بها عدة مواقع للاكتشاف والزيارة.


كان قطار مدينة فيينا واضحًا وسهلًا، والأجمل أنهم في المحطات لا يُلزمونك بتمرير التذكرة عند الدخول والرجوع. فما أن اشتريتها، لم أخُرجها من جيب حقيبتي. أفرحتني تلك الثقة التي توليها المدينة لشعبها. أخذت السلالم الكهربائية، وارتفعت بيّ لوسط المدينة، أخذتُ جولة سريعة في المكان، وكما هي الحال في المُدن الأوروبية؛ كان في شارع فيينا الرئيس كنسية قديمة باسقة وحولها المحالِ والمطاعم. لكن ومن نظرةِ أولى عرفت أن في ذاك الشارع، على الأقل، ثمة متحفين عظيمين، هذا غير المباني التاريخية التي يزخر بها المكان. وتلبّس فوق الشعور الأول شعور جديد؛ أني فضولية في مكانِ مسكونٍ بالقصص وبأني عليّ، خلال أربعة أيام، أن أسبر أغواره، وأن أشهد أكبر قدرِ من قِصصه وتاريخه.


قصر الملكة سيسي كما يبدو في ممر الشارع الرئيس

متحف بيلفيدير: تُفاجئني الأشياء حين اعتادها

أكلت الفطور على عجل في مطعم Verde، بيضة وأفوكادو وعصير برتقال (لم أعد أستطع شرب القهوة، ولا أريد الحديث بالموضوع!)، وبعدها ذهبت إلى وجهتي الأولى متحف بيلفيدير، اخترتُه أولًا لأنه يضم أكثر أعمال جوستاف كليمت، فنان فيينا الأول وصاحب رسمة القُبلة. للمتحف حديقة واسعة، وبوابة خشبية مفتوحة. ولوحات جميلة كثيرة لفنانين شتى، تأملت ما أعجبني، بينما كُنت أسترق النظر إلى الصالات المجاورة بحثًا عن اسم جوستاف كليمت. رحتُ أمشي بلا اكتراث بين الأروقة، وبداخل إطارات اللوحات المُعلقة، كانت وجوه بملامحِ أوروبية صفراء وباروكات شعرِ تحدق نحوي بجدية، أحسست بسخرية الحياة وأنا التقط لهم صورًا سريعة بينما قد توقف هؤلاء لساعات أو لأيام مفترقة من أجل أن يرسمهم أحد، ويأخذ من زمنهم لحظة. لحظة كُنت فيها قد مددت يدي نحو هاتفي، لألتقط لهم صورة، وأمشي بعدها لتغدو وجوههم كشيء اعتيادي لا يستأهل عناء التذكُر. وإذ بي -وأنا في خضم فكرة اعتياد الأشياء- أشهق دهشةً وفرحًا وأنا أرى أمامي رسمة لفان جوخ، الذي لم أتوقع أني سأرى لهُ شيئًا في فيينا! كانت لوحتهِ صارخة على نحوِ راقِ وغريب، ومتألقة بين جموع اللوحات الأخريات. في الصالة نفسها ثمة لوحة أخُرى لفنانِ أحُب بالقدر المماثل، كلاود مونيه، ورسمة بورتريه الطباخ. بجانبها كان الباب الخشبي مواربًا، والأصوات من خلفه تعلو، حشود تتكلم بلغات مُختلفة، عرفت أن خلفهِ لوحة القُبلة الذهبية. لم أرد أن التفت فورًا، وأخذتُ أنهال من جمال تلك الصالة؛ وهناك قفزت لبالي فكرةِ آبدة تغلغلت جلدي من مسامهِ وقشعرتني؛ ما كُنت أراهُ أمامي اليوم من ألوان، وآثار لضربات الفرشة ولطخاتها، كُنت يومًا قد رأيتهُ لأول مرةِ على صفحات ويكيبيديا حُين كنت مُراهقة تعشق القراءة عن اللوحات والفن. فكيف انقلبت تجربة الإنسان هكذا؟ لقد شاهدتُ كُل ما أحُب قبل أن أشاهدهُ حقًا، وهذه التجربة التي أعيش إنما هي نسخة حسية بخياراتِ أوسع. لم تكن فكرة قاتمة؛ بل غامضة حد الإدراك، ومُربكة حدِ الصفاء. خطوت نحو الصالة التي تحويّ لوحات كليمت، وشاهدت كل واحدةِ على حدة، والتقطت صورة سريعة لي أمام لوحة القُبلة، لأني نادرًا ما أتعلم الدرس، ونادرًا أكثر ما أسلك الدرب الذي يجدر بي أخذه.



يباغتنا الموت مُبكرًا

في اليوم الموالي، زرت قصر الملكة سيسي -أو الإمبراطورة إليزابيث- لم أعرف عنها الكثير سوى أنها كانت جميلة وحزينة للغاية طوال حياتها. من حسن حظي أن سبتمبر يكاد يخلو من السيّاح، ابتعت لنفسي تذكرة دونما الوقوف بطابورِ طويل. أخذتُ ساندويشة بجبن الحلوم من ركنِ مطاعم بالقرب من المتحف، ومن ثمُ دخلت القصر، وضعت معطفي بحجرة المعاطف، وأنا أسمع النساء خلفي يتساءلن وهن ينظرن إلى صورة الملكة: «أتظنين بأن زوجها قد أحبّها؟». أدركت حينها أني سأدخل بتجربة عاطفية جارفة، سألت الموظفة عن الدليل الصوتي للمتحف، وأعطتني واحدًا. حَرك الدليل الصوتي إحساسي الفضولي أكثر. انتقلت من غرفة الانتظار الضيقة التي كُنت فيها إلى صالات القصر الواسعة، وفكرتُ كيف من الغريب لأحدِ أن يشعُر بالضيق في مكانِ كهذا، إلا أن الملكة -هذهِ التي يحكي المتحف عنها- كانت لا تُطيق هذا المكان، ولطالما أرادت الابتعاد عنهِ. في بدايتها، وحسب ما يقوله الدليل الصوتي الذي كُنت أضعه على أذني وأتجول به، لم تتخيل سيسي أنها ستتزوج الإمبراطور فرانز جوزيف الأول، وحين تزوجت بهِ، صُدمت بالفراغ الذي يقتل المرء ببطء حتى لا يكاد يشعُر بشيء. لم يُحبها زوجها، وكان باردًا تجاهها. رأيتُ طاولته التي يستضيف فيها الملوك والسادة، وحوض استحمامه الذي يستحم فيه قبل اتخاذه أي قرار حاسم. وهي: رأيت منضدة مكياجها، ومِشطها، وفساتينها، وحُليّها الأنيقة. وكأن كُل ما فيّ القصر قد حدّد أدوارها قبل أن يسألها شيئًا.


ثمة مُجسم رُسم لشكل الملكة في القصر، مكتوبِ فيه أن حجم خصرها لم يكن طبيعيًا، وذلك بسبب هوسها بالجمال، وارتدائها لمشدات جسدية طيلة الوقت. كانت تُحب شعرها، وتعيش غُربة، وقد كتبت قصائد حزينة عن حياتها. انتحر ابنها، وهو بعمر الثلاثين، بما يعرف بحادثة مايرلينج، وقد لامت نفسها كثيرًا حتى قُتلت هي مطعونةِ على يدِ أناركي إيطالي احتجاجًا منهِ على حكم الأثرياء، الحُكم التي لم تمتلكهُ أو تُردهُ قط. خرجت أنا من القصر، بحدائقهِ، وبساتيّنه، وملحقاته، ونظرت نحو السماء التي كانت تمتد في الأفق على فيينا: كيف لكونِ واسع هكذا أن يضيق على أحدهم؟ وأحزنني أني أملك لهذا السؤال إجابة.



بعدها، أخذتُ القطار إلى متحف ليوبولد، حيث تُعرض لوحات إيغون شيلا، أحد فنانيّ المفضلين الذي لطالما تأملت لوحاته في حاسوبي، وممن تتلمذ على يد غوستاف كليمت. رأيتُ لوحة الحياة والموت، وكُنت جد محظوظة؛ فقد وقفت بمقربة شديدة منها، ورأيت من زاوية الحياة، كيف ينتظر الموت أولئك الأحياء بعصاهِ الخشبية. ابتعدت عن اللوحة، وقرأت أن إيجون شيلي كان قد توفي عن عمر الثامنة والعشرين، بسببِ وباء الحمى الإسبانية. خرجتُ وجلستُ على كُرسي أمام المتحف، أكلت المثلجات، ولم أُفكر في شيء.


فرويد كان مُتمردًا، والمكتبة في الشارع الخلفي:

خصصت يومي ما قبل الأخير لزيارة شِقة سيجموند فرويد ومكتبة شكسبير آند كومباني. قرأت لفرويد مقالات كثيرة، وأعجبني كتابه (قلق في الحضارة)، وبالطبع فأني أعرف عنه الكثير لأنه أضحى مُفكرًا شائع الانتشار. في الطريق لشقته، لاحظت أجمل ما قد يفعله الناس في تخليد ذكرى شخصِ ما؛ فقد كان الشارع الذي يقطنه فرويد شارعًا شعبيًا، ولهُ طابع شبابي تمردي، يضجُ بثقافة البانك (punk). في المطعم مثلًا؛ كانت هُناك لوحةِ حديثة مرسومةِ لفرويد وهو يُدخن السيجار في الفضاء. كان لائقًا جدًا عليّه أن يكون هُناك، في شارعِ لا يكترث بالكياسة أو التقاليد، إنما حيثُ تكون الحرية التعبيرية جليّة، في شارع حيث ستجد رسوم الجرافيتي على جدران معبر النهر السفلية، ومحال أسطوانات الجرامافون، والمقاهٍ ذوي المفهوم الحديث (مطاعم نباتية تدعم البيئة، مقاهي موسيقية، مطاعم فنيّة بجانب محال ثياب...). لم أتخيل أني سأرى فرويد بجانب حديقة وشجرة لتخليده، كان الشارع والناس والثقافة ما يليق به. في شقة فرويد: الأرضية خشبية، وتُصدر صريرًا خفيفًا كلما خطا أحدهم خطوة، الأبواب بيضاء وطويلة، والنوافذ تُطل على حديقة منزلية صغيرة. كانت الغُرف كثيرة؛ فقد كان يُعاين مرضاه في شقتهِ. المدخل الأول للشقة هي غرفة انتظار المرضى، ومُقابلها غُرفة مليئة بالكُتب والتُحف وأريكته الشهيرة التي يستلقي عليها المريض ليتحدث عن نفسه. لم يكن لتلك الأشياء وجود في الغُرفة، ذلك لأن فرويد كان قد اضطر إلى الفرار من النمسا خلال الاحتلال النازي، وأخذ معهُ كثير من متعلقاتهِ إلى لندن، حيث عاش بقية حياته. بصرفِ النظر، كانت الشقة جميلة، وتحوي على معلومات كثيرة عن فرويد وعائلته وطُرقه النفسية العلاجية. لم يكن براقًا، فقد حاول علاج أحدهم من المُخدرات بجعلهِ يُدمن الكوكايين، مما قتل الشاب بعد فترة. شعرتُ برضا داخلي عذب وأنا أستوعب أن حتى العباقرة -أحيانًا- يخطئون.

شُرفة فرويد التي كان يقرأ فيها ويعمل

زرت بعدها مكتبة شكسبير آند كومباني، وهي لا تُعد امتيازًا تجاريًا لتلك في باريس إنما اختاروا الاسم نفسه تخليدً للمكتبة الفرنسية، والتي بالمناسبة لا تملك حقوقًا على اسمها! كانت صغيرة ومليئة بمجموعة كُتب كثيرة أردت شراءها، إلا أني قاومت ألا أشتري أكثر من كتاب واحد لأني أريد قراءة ما أملكه أولًا، فأخذت كتاب (أيام الهجران لإيلينا فرانتي). بعدها، جلست في مطعمِ آسيوي، وشربت شاي الياسمين بينما أخذ لون السحب يقتم إلى الرمادي، والتصقت قطرات المطر على النافذة وانسابت ببطء. بعد لحظات، وصل زوجي إلي بعد إنهائهِ عمله، فسألني: «ألم تزوري متحف تاريخ الفنون بعد؟!» قلتُ «لا»، وأنا التي كنُت أحسب نفسي قادرة على زيارة كُل متاحف فيينا في أيام قليلة، «لكني، قطعًا سأزورهِ غدًا».


 

أسماء أماكن للزيارة في فيينا:

bottom of page