top of page
صورة الكاتبملاك الراشد

المشي لأطول وقتِ مُمكن

لا أعرف لما ترتبط الشيخوخة دومًا بالخوف؛ بالتجاعيد وتساقط الشعر وتغير لونه للبياض، وربما بذبول أطراف شفاتنا ونسيان أجزاء وأشخاص من حيواتنا. لا تعنيني أيّ من تلك الأشياء، وحقًا أقولها. حتمًا سأخاف عندئذ إنما لا أشغل بالي بها الآن. لكن لو سألني أحدهم "ما الذي تخافين فقدانه في الكبر؟" سأقول حتمًا أني أخاف أن أفقد القدرة على المشي. هذا ما يشغلني بحق؛ أن أكون يومًا غير قادرة على فتح الباب والذهاب لنزهة، أن أمشِ طويلًا غير آبهة بما عليّ فعله، ولا بما ينتظرني. وحدي فقط بُصحبة قائمة أغان أسمعها بذهن ممتلئ بتصوراتٍ كثيرة أُقلب مِنها ما أشاء.


حينما كُنت أسكن الرياض لم أمشِ كثيرا، فالأجواء أغلب العام شديدة الحرارة. كُنت أتحرى أقل نسيم من شأنه أن يُلطف الجو لأمشي، وكان يُحزنيّ منظر إي دروب أو شوارع جميلة لا أستطيع مشيّها. أتذكر أن لمستشفى الملك فيصل بالرياض، حيث كانت وظيفتي الأخيرة، تصميمًا أخاذًا؛ فالمباني صُممت بِطراز أمريكي يوحي بالسبعينيات وبين كل مبنى وآخر ثمة حدائق صغيرة مُشذبة ومُقلمة بعناية وبمجموعات من الورود والأشجار التي لم أتصور أنها قد تنبت وتعيش لفترة طويلة في أجواء السعودية. لا أمتلك صورًا لها. بيد أن مشهد تلك الممرات الواسعة بسقوفها البنية ونباتاتها المُتدلية، وذاك القط الذي كان يُزعجني بنظراته ريثما آكل يحوم بذاكرتي الآن، وأنا أكتب عنها، وُيرجع إليّ شعورًا من الدفء والألفة. غريب كيف للحظاتِ ظننتها عابرة أن تترسخ ذاكرتي.


في جنيف، الوضع مختلف. إذ أستطيع المشي طيلة العام تقريبًا. ففي الصيف، تكون السماء صافية والشمسُ حارة، وتبدو الحدائق والغابات وكأنها قد خُلقت من ضياء، الألوان تزهو والناس تستلقي على العشب بملابسها القصيرة الخفيفة تحت ظلال الشجر. وفي الخريف، وهو فصليّ المفضل، يتحول المشهد إلى ترنيمة شجيّة بدرجات البرتقالي والأحمر. إن الخريف ليجمع طقس الربيع والصيف وكأنما يقيّ نفسه من أيّ تفريط، وهو الشهر الأنسب لمعاطف الغبردين ووشاحات الصوف وأغاني تايلور سويفت، ومشروب الشاي، وكعكاتِ بنكهات الزنجبيل والقرفة والزعفران. أما في الشتاء، فيتحول حينها كل شيء إلى رماديّ مُعتم يشبه مشهدًا من فيلم عن الحقبة الشيوعية؛ تظل تلك الكآبة تحوم طيلة شهريّ ديسمبر ويناير. هما شهران قاسيان للغاية، وأكاد لا أخرج من منزلي وقتها لسوى الذهاب للدراسة أو السوبر ماركت. أتذكر مرة مرّ علينا أسبوع دون رؤية الشمس، كُنا نستيقظ صباحًا على سماء بلا لون، سوداء معتمة، كنت قد اختلقت يومها سببًا للبكاء. يظل فبراير ومارس بارديّن أيضًا. في أبريل، بينما أكتُب الآن، تبدأ تغييرات صغيرة بالظهور، وكأنما الطقس يُنادي للرجوع للمشي؛ طير يُغني قُرب النافذة، البلبلة والثرثرة والضَحكات العالية في الشوارع تعود، والبحيرة تعكس على سطحها ظِلال الصديقات والمشاة العابرين والأطفال. ما زال الجو باردًا وما زلت أضطرُ أحيانًا على ارتداء سترة "نورث فيس" الشتوية غير أني رَجعتُ أمشي بعدما توقفت تمامًا في الشتاء.


من أمام بُحيرة جنيف بمنطقة Junction

في أوروبا لا يلقون السلام عليك إلا بداخل المحال، والابتسامة للغرباء أمر غير مُستحب. لكن بداخل الغابات، حيث أمشي، ستتفاجأ أن هولاء الذي تحاشوا النظر إليك في القطار، سيلقون عليك السلام، وسيبتسمون لك، وقد يجعلونك تلعب مع كلبهم، وربما ستتحدث معهم بشؤونهم اليومية. إننا بالداخل على غايةِ ما نكون من الخصوصية المشتركة، وفي الخارج غُرباء. ما أن أشرع في المشي حتى تقودني أقدامي إلى المشي لأطول وقت ممكن. وفي لحظات كهذه أدرك أن الحياة جميلة بل، وقد تبدو بمنتهى الكمال، وإن محض السير بخطى نشيطة كافِ لإدراك ذلك. إلا أن المشي مرات يأخذني إلى أماكن أبعد من الجمال، ويُرجعنيّ رغمًا عني لأشياء كانت قد أَفلتت مني أو أخرى أفلتُها بِقصد: كصداقات انتهت بوداعاتِ غريبة أو بلا نهاياتِ واضحة. حينئذ ينسحب المنطق مني، ولا يمكث بيّ سوى سيل العواطف والخيالات، إذ تُقبل عليّ تيارات جيّاشة من المواقف التي تجنبت، وأرى بوضوح وجوهًا وأماكنٍ قد تخليّت عنها. وفي تلك الخصوصية الشديدة تَهب لي الغابة فرصةً كي أعيد عيّش كُل ما فات، وأن أقول ما كنت أريدُ يومًا قوله. أشياء كثيرة ظننت أني تجاوزتها بيد أني أُصادف أحيانًا أن أجدنيّ أتحدث مع نفسي محاولةً فهمها. حين تبدأ تلكم الخيالات بالرجوع لذاكرتي لا أنفك أن أُحاول إقحام نفسي بها مجددًا، وكأنما أفرغ إيّاي بداخل تلك السكينة. أراني أتحدث بإسهاب ودون وعي مُفرغةً ما كان يجثم فوق كتفيي ويستهلكني إخراسه. وحين أكاد أنتهي من هذا التفريغ اللاوعي، وأكتشف ما كنت بنفسي أفعل، ينتابني شعور من السفور والانكشاف الشديد.


تعوزني القدرة على فهم نفسي. أينبغي أن تكون الأمور هكذا؟ أن أولج بنفسي في الغابات محاولة فهم أشياء وبنهدة أخيرة أُسرحها؟ لا أعرف حقًا. لكن التفريغ بشتى أنواعه لأمرٍ مُفيد، طالما أنه لا يُفسد أو يُؤذي. هي أشياء بداخلنا تريد الخروج سواء بالكتابة أو بالمشاركة أو بالحديث عنها. ما أعرفه حقًا أني حين أتحدث عنها فأنها تتبخر، لن تَعلق بأشجار الغاب، ولن تموت على أرضيتها. ستتبخر ليس إلا.


الحديقة الإنجليزية - أمام بُحيرة جنيف

إني أسير، وأتخيل، وأرى وأسمع. ويفيض كياني بكل ما هو موجود. تستقر اللحظة وأشعر أن هذا الكون، الذي لا يشعر، يشعرُ بي ويُحيطني ببشائره، وأني إذا ما تلبستني الحكمة وقرأت الماضي قراءة منصفة فإني سأعود أخيرًا لنفسي، لتلك اللحظة بالذات. وكأنما شجر الصفصاف إذ يُحرك أوراقه نحوي يقول: "إن تتابع الحياة مُحتم، تذهب أشياء وتبقى أخرى. وإن المضي يستلزم أحيانًا فَكِ قبضات الأيادي". فأرُخيّ ما كُنت أشدُ قبضتي عليه، وتتغلغل، إذ افتح يديّ، التربة الرطبة وتطىء قدمايّ، إذ أخرج، على أرض جديدة بروح غير مُثقلة؛ لأني قد قطعت ذاك التراكم الغليظ. هكذا لحظات تُشعرني بأن بيني وبين الطبيعة رابطًا حميميًا ما: شيء أليف ونفيس. وإني حين أسير في دروبها، فأني أتلحف بأشجارها، وبذلك الصمت العذب الذي لا يعرفه سوى المقربين من بعضهم بعض. دروبها الُمخضرة التي سأطرقها مرارًا آملة في كل مرة أن أخرج منها مُحملة بحكمة الغاب.


إنما أحاول الآن ألا أربط المشي بالماضي، وأن أجعله وسيلة لخلق القِصص والشخصيات التي أكتب عنها! حاليًا أكتب قصة عن طفلة متمردة وشقية لكنها محبوبة جدًا، وكلما أحسست أن بالقصة ثغرةً أو لغزًا يحتاج الفك، فتحت الباب، وخرجت في مشيٍ طويل. ولسبب ما، لا أعترف أني سأذهب للمشي كي أحييّك قصتي، بل أختلق عذرًا لأمشي نصف ساعة على الأقل: كشراء حِزمة بطاطس، أو قلم رصاص وممحاة. وقبل أن أشتريها أمشي، سواءً في حديقة قُرب المنزل أو غابة صغيرة بواجهةٍ نهريّة. أتمشى وأحاول أن أربط خيطًا بآخر، أسدُ ثغرات القصة، وأتخيّل ما ستفعله الشخصيات، وكيف لِقصصهم أن تجري. أرى الشخصيات في البحيرة أو فوق الشجر تنسجُ قصتها، ولو أعجبني طيف ذاك الخيال تتبعته، ونسجتُ منه خيالًا آخر. إني أتعقب الخيال، وأقتفي الظلال كي أخَلق حبكة ما، وحين أنتهي وأُبصر اكتمال القِصة، أرجِع لمنزلي بسعادة لا توصف لأكتب ما شهدتُه عيناي وأحسست بِه. أعيّ أن ثمة شيئا باعثًا للإبداع والخيال بتلك الخطوات المستمرة الوئيدة، وأن بتلك الأرض الرطبة ثمة خطوات تدلني للأمام، وأخرى تأخذني للوراء، وبأن الأرض لامتداد شاسع أخاذ، وأن ما من زاوية فيها إلا، وقد تُحرك فيني شيئًا. لذلك، سأبقى مُتيقظة لألتقط قصة أو لأفهم الماضي.

bottom of page